كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17].
قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ}. أي أخبر يا صالح ثمود أن الماء- وهو ماء البئر التي كانت تشرب منها الناقة- قسمة بينهم، فيوم للناقة- ويوم لثموند، فقوله: {بَيْنَهُمْ}: أي بين الناقة وثمود وغلب العقلاء على الناقة {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} أي يحضره صاحبه، فتحضر الناقة شرب يومها وتحضر ثمود شرب يومها.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في ىية أخرى وهي قوله تعالى في الشعراء: {قال هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] وشرب الناقة هو الذي حذرهم منه صالح لئلا يتعرضوا له في قوله تعالى: {فَقال لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13].
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29).
قوله: {فتعاطى}، قال أبو حيان في البحر: فتعاطى هو مطاوع عاطا، وكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضًا، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده. انتهى محل الغرض منه.
والعرب تقول: تعاطى كذا إذا فعله أو تناوله، وعاطاه إذا تناوله، ومنه قول حسان رضي الله عنه:
كلتاهما حلب العصير فعاطني ** بزجاجة أرخاهما للمفصل

وقوله: {فَعَقَرَ} أي تعاطى عقر الناقة فعقرها، فمفعولا الفعلين محذوفان تقديرهما كما ذكرنا، وعبر عن عاقر الناقة هنا بأنه صاحبهم، وعبر عنه في الشمس بأنه أشقاهم وذلك في قوله: {إِذِ انبعث أَشْقَاهَا} [الشمس: 12].
وهذه الآية الكريمة تشير إلى إزالة إشكال معروف في الآية، وإيضاح ذلك أن الله تعالى فيه نسب العقر لواحد لا لجماعة، لأنه نال: فتعاطى فعقر، بالإفراد مع أنه أسند عقر الناقة في آيات أخر إلى ثمود كلهم كقوله في سورة الأعراف: {فَعَقَرُواْ الناقة وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الاعراف: 77] الآية، وقوله تعالى في هود: {فَعَقَرُوهَا فَقال تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] وقوله في الشعراء: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ} [الشعراء: 157] وقوله في الشمس: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس: 14].
ووجه إشارة الآية إلى إزالة هذا الإشكال هو أن قوله تعالى: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} [القمر: 29] يدل على أن ثمود اتفقوا كلهم على عقر الناقة، فنادوا واحدًا منهم لينفذ ما اتفقوا عليه، أصالة عن نفسه وتبلية عن غيره. ومعلوم أن المتمالئين على العقر كلهم عاقرون، وصحت نسة العقر إلى المنفذ المباشر للعقر، وصحت نسبته أيضًا إلى جميع، لأنهم متمالئون كما دل عليه ترتيب تعاطي العقر بالفاء في قوله: فتاعاطا فعقر على ندائهم صاحبهم لينوب عنهم في مباشرة العقر في قوله تعالى: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ} أي نادوه ليعقرها.
وجمع بعض العلماء بين هذه الآيات بوجه آخر، وهو أن إطلاق المجموع مرادًا به بعضه أسلوب عربي مشهور، وهو كثير في القرآن في كلام العرب.
وقد قدمنا في سورة الحجرات أن منه قراءة حمزة في قوله تعالى: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} [البقرة: 191] بصيغة المجرد في الفعلين لأن من قتل ومات لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله، بل المراد في إن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر، ونظيره قول ابن مطيع:
فإن تقتلونا عند حرة واقسم ** فإنا على الإسلام أول من قتل

أي فإن تقتلوا بعضنا، وأن منه أيضًا: {قالتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} [الحجرات: 14] لأن هذا في بعضهم دون بعض. بدليل قوله تعالى: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} [التوبة: 99]- إلى قوله- {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 99].
وقد قدمنا في الحجرات وغيرها، أن من أصرح الشواهد العربية في ذلك قول الشاعر:
فسيف بني عبس وقد ضربوا به ** نبيا بيدي ورقاء عن رأس خالد

وقوله تعالى: {فَعَقَرَ}: أي قتلها. والعرب تطلق العقر على القتل والنحر والجرح ومنه قول امرئ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معًا ** بني ضوطرا لولا الكمي المقنعا

إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31).
قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة فصلت، في الكلام على قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17].
قوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا}: قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء} [الفرقان: 40]، وقوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} قد قدمنا الآيات الموضحة له إيضاحًا شافيًا بكثرة.
وقد تضمنت إيضاح قصة لوط وقومه في سورة هود وسورة الحجر في الكلام على القسة لامذكورة في السورتين.
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42).
تضمنت هاتان الآيتان ثلاثة أمور:
الأول: أن آل فرعون جاءتهم النذر.
الثاني: أنهم كذبوا بآيات الله.
الثالث: أن الله أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة هنا جاءت موضحة في آيات أخر من كتاب الله، أما الأول منها وهو أن آل فرعون وقومه جاءهم النذر، فقد أوضحه تعالى في آيات كثيرة من كتابه.
اعلم أولًا أن قوله: {جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر} [القمر: 41]، قيل: هو جمع نذير وهو الرسول: وقيل هو مصدربمعنى الإنذار فعلى أنه مصدر.
فقد بينت اللآيات القرآنية بكثرة أن الذي جاءهم بذلك الإنذار هو موسى وهارون، وعلى أنه جميع نذير أي منذر، فالمراد به موسى وهارون، وقد جاء في آيات كثيرة إرسال موسى وهارون لفرعون كقوله تعالى في طه: {فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} [طه: 47].
ثم بين تعالى إنذارهما له في قوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} [طه: 48] ونحوها من الآيات، وفي هذه الآية سؤال معروف، وهو أن الله تبارك وتعالى أرسل لفرعون نبيين هما موسى وهارون، كما قال تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] وهنا جمع النذر في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر}، وللعلماء عن هذا أجوبة. أحدها أن أقل الجمع اثنان كما هو المقرر في أصول مالك بن أنس رحمه الله، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله:
أقل معنى الجمع في المشتهر ** للاثنان في رأي الإمام الحمير

قالوا، ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ولهما قلبان فقط وقوله: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس} [النساء: 11] والمراد بالإخوة اثنان فصاعدًا كما عليه الصحابة فمن بعدهم خلافًا لابن عباس، وقوله........................................
وله طرفان. ومنها ما ذكره الزمخشري وغيره من أن المراد بالنذر موسى وهارون وغيرهما من اأنبياء، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون. ومنها أن النذر مصدر بمعنى الإنذار.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق في الجواب، أن من كذب رسولًا واحدًا فقد كذب جميع المرسلين، ومن كذب نذيرًا واحدًا فقد كذب جميع النذر، لأن أصل دعوة جميع الرسل واحدة، وهي مضمون لا إله إلا الله كما أوضحه تعالى بقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36] وقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون} [الأنبياء: 25]. وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].
وأوضح تعالى أن من كذب بعضهم فقد كذب جميعهم في قوله تعالى: {وَيقولونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلًا أولئك هُمُ الكافرون حَقًّا} [النساء: 150- 151] الآية، وأشار إلى ذلك في قوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285]. وقوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] وقوله تعالى: {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} [النساء: 152] الآية.
وقد أوضح تعالى في سورة الشعراء أن تكذيب سول واحد تكذيب لجميع الرسل، وذلك في قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} [الشعراء: 105] ثم بين أن تكذيبهم للمرسلين إنما وقع بتكذيبهم نوحًا وحده، حيث فرد ذلك بقوله: {إِذْ قال لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 106]- إلى قوله- {قال رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء: 117] وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} [الشعراء: 123]، ثم بين أن ذلك بتكذيب هود وحده، حيث فرده بقوله: {إِذْ قال لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 124] ونحو ذلك في قوله تعالى في قصة صالح وقومه، ولوط وقومه، وشعيب وأصحاب الأيكة، كما هو معلوم، وهو واضح لا خفاء فيه، ويزيده إيضاحًا قوله صلى الله عليه وسلم: «إنا معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» يعني أنهم كلهم متفقون في الأصول وإن اختلفت شرائعهم في بعض الفروع.
وأما الأمر الثاني: وهو كون فرعون وقومه كذبوا بآيات الله، فقد جاء موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {وَقالواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وأبى} [طه: 56]. وقوله تعالى: {فَأَرَاهُ الآية الكبرى فَكَذَّبَ وعصى} [النازعات: 20- 21]. وقوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سواء فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قالواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} [النمل: 12- 14].
وأما الأمر الثالث وهو قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 42]، فقد جاء موضحًا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {وَفِي موسى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [الذاريات: 38]- إلى قوله- {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات: 40] وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] وقوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 50] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِر} يوضحه قوله تعالى: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم تلى قوله تعالى: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى} الآية»، والعزيز الغالب، والمقتدر: شديد القدرة عظيمها.